نقاطٌ منهجيَّة بين
يَدَي الدُّروس
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسلام على رسوله الأمين، نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، أمَّا بعدُ:
فهذه دروس تأصيليَّة في علم النَّحو العربيِّ، كُنَّا قد وعدنا بها سابقًا، نسأل الله تعالى أن يوفِّقنا لعرضها وإتمامها على الوجه الذي يرضيه عنا.
وقد آثرنا قبل الشروعِ في هذه الدُّروس
التَّأصيليَّة أن نقدِّمَ بعضَ النِّقاطِ المنهجية حولَ تعلُّم النَّحو، والمنهج
المعتمد في هذه الدُّروس، وسنوجزها في النقاط التالية:
- دراسةُ
النَّحو لا تتمُّ جملةً واحدة، بل تأتي عبرَ مراحلَ ومستوياتٍ، يُمكِنُ حصرُها في ثلاثٍ
-كما درجَ عليه العُلماءُ-:
1. المستوى الأوَّلُ:
هو مدخلٌ تأصيليُّ للقواعدِ والأسس العامَّة التي يقومُ عليها علمُ النَّحو
(وتتمحوَرُ هذه الأسس بصفة عامَّةٍ حولَ: تعريف النحو وميدانه ووحداته الأساسية –
الإعراب وأنواعه وعلاماتُه – معرفة أهمِّ الأبوابِ النحوية وأحكامها العامَّة،
وأشهرُ مَتنٍ يُمثِّلُ هذا المستوى هو: متنُ الآجُرُّومِيَّة، للعلَّامة
ابن آجرُّوم).
2. المستوى الثَّانِي:
دراسة مُجملةٌ لغالِبِ الأبواب النَّحوية مع شيءٍ من البسطِ والتَّوسُّع في عرض
التَّفاصيل والضوابطِ والشَّواهدِ (ويُمثِّلُ هذا المستوى: متنُ قَطِرِ النَّدى
وبلِّ الصَّدَى، للعلَّامةِ ابن هشامٍ الأنصاري).
3. المستوى الثَّالثُ:
دراسةٌ مستفيضة مفصَّلة لأغلَبِ القضايا النَّحويَّة، مع البسط والتَّوسُّع أكثر
في عرض جزئياتِ المسائل والضوابطِ وبعض العِلل والشَّواهدِ والمذاهبِ النَّحوية
(ويمثِّلُ هذا المستوى غالبًا: متنُ الألفية، للإمام ابنِ مالكٍ
الأندلسيِّ).
وأمَّا ما زادَ عن هذه المستوياتِ
الثلاثةِ فهو من باب التَّخصُّصِ في علمِ النَّحو، وهو بابٌ واسعٌ ليس هذا موضعُ
تفصيله.
- لِيَحذرِ
الطَّالبُ من السَّآمة والملل، فإنَّ هذا التَّدرُّجَ في دراسة النَّحو ليس
لإحباطِ الطالبِ، وإطالةِ الطَّريق عليه، بل هو مراعاةٌ لسُنَّةِ التدرُّجِ في
تلقِّي العلوم والتَّرقِّي في درجاتها؛ حيثُ يُراعَى ذهنُ الطَّالب وإمكاناتُه الأوَّلية،
فلا تُلقى إليه المعارفُ جُملةً واحدةً، فتتزَاحَم عليه وتتراكم، مما يُعيقُ
فهمَهُ، ويستصعبُ معَهُ هذا العلم، وبالتالي يستسلمُ للإِحباطِ والفشل.
- ولا
ينبغي للطالب أن يستعجلَ الثَّمرة قبلَ
أجلها، فيتصوَّرُ أنَّه بمجرَّدِ دراسةِ متنٍ مختصرٍ وحِفْظه وفَهْمه سيكونُ
قادرًا على إتقان مسائل النَّحوِ كلِّها، أو النُّطقِ الصحيحِ دون لحن، أو إعرابِ
أيِّ جملةٍ ونصٍّ يُصادِفانِه (!)،
فدارِسُ مَتْنِ الآجُرُّومية -مثلًا- لن يُحيطَ بكلِّ مسائل وقضايا علمِ النَّحوِ،
وإنَّما سيكتسبُ قاعدةً متينةً في هذا العلم، يَبني عليها تفاصيل القضايا
النَّحوية من خلال المستوى الثَّاني والثَّالث.
- لن
يكونَ الطَّالبُ قادرًا على إعرابِ كلِّ التَّراكيب العربية (إعرابَ نُطقٍ وإعرابَ
تحليل) إعرابًا صحيحًا إلَّا إذا استكملَ مستويات النَّحو الثلاثة كلِّها.
- طريقةُ تعلُّمِ النَّحو:
هناك عِدَّةُ طرائقَ لتعلُّمِ أو
تَعْلِيمِ النَّحوِ، تختلفُ كلُّ واحدةٍ منها عن الأخرى في المنهج والطَّرح، وكلُّ
طريقةٍ لها إيجابيات وسلبيات، ولعلَّ الطَّريقةَ الفُضلى لحدِّ الآن هي التي
انتهجها علماؤنا الأوائل، وهي طريقةُ المتونِ المختصرة ؛ فالمتخرِّجُ على هذه
الطريقةِ يكونُ غالبًا أضبطَ لعلم النَّحو وقواعِده. تأتي بعدها طريقةٌ حديثةٌ
تعتمدُ على الأمثلة والشرح، ثمَّ استنباطِ القاعدة مع تجوُّزٍ وتسامحٍ في
المصطلحات.
والذي ارتأيناهُ في هذه الدُّروس هو
اعتمادُ الطريقة التُّراثية (أي: حفظُ المتن + قراءة الشرح)، مع الاستفادة
من مزايا الطريقة الحديثة في الشَّرح وتوظيفِ النُّصوص، والتمارين.
ومن هنا: نقترحُ على الطلبة حفظَ المتنِ
حفظًا جيِّدًا، ثمَّ الإقبال على الشَّرحِ، لفهمِ واستيعابِ المتنِ المحفوظ.
- لماذا أحفظُ المَتن؟
المتنُ:
هو كتابٌ مختصرٌ (قليلُ الألفاظِ مكثَّفُ المعاني)، تُعتصَرُ فيه أصول العلم
ومسائِلُه بطريقةٍ دقيقةٍ، فيكونُ بذلكَ: سهلَ الحفظِ لقلَّة ألفاظه، جامعًا
لمسائلَ كثيرةٍ لكثافةِ معانيه، وقد يكونُ نثرًا كمتن الآجرومية، وقطر النَّدى
-مثلًا-، وقد يكونُ نظمًا كألفية ابن مالك مثلًا.
ثمَّ الحفظُ أساسُ العلم، وإذا لم يحفظِ
الطَّالبُ أصولًا جامعةً للعلم فلن يُلمَّ بهذا العلم، ولن يصلَ إلى الغايَة في
إتقانه، والتمكُّنِ من مسائله، ومن هنا فالحِفظُ أمرٌ ضروريٌّ؛ حيثُ تُنقَشُ
القواعدُ في الذهن، لتُصبحَ مع الوَقتِ سليقةً أو كالسَّليقةِ.
أمَّا ما يُشاعُ من أنَّ الحفظَ يُضادُّ
الفهمَ، فإمَّا أن تكونَ حافظًا لا يفهم، وإمَّا أن تكونَ فاهمًا لا يحفظُ، فهذا
أمرٌ لا أساسَ له من الصِّحة ألْبتَّة، فالحفظُ والفهمُ مُتلازمانِ في تلقِّي
العلوم؛ الحفظُ يكفَلُ توفيرَ المعلومات (قوانين العلم)، والفهمُ يكفَلُ تحليل تلك
المعلومات والقياس عليها والاستنتاج منها (عملية المعالجة)، وإذا انتقضَ أحدُ هذين
الرُّكنين انتقضَ إتقانُ العلمُ. فلا علمَ إلَّا بحفظٍ وفهمٍ.
*
* *
طيب جدا
ردحذف